هكذا الواقع بقلم : د. ولاء عبد العليم

لوحة الجنة

هكـذا الواقـع …. جـدبٌ مفجع… أخـيراً … انتهت الاختبارات السـنويـة .. ودق جـرس بـدء الإجـازة الصـيفيـة ..

الآن فـقـط نتـنفـس الصـعداء بعـد معـانـاة .. ونـبتعـد عن الكتـب والمذكـرات لعـلنا إليـها نـشـتاق .. فقـد لازمتـنا أيـام وليـال .. نـتحـداها وتـتحـدانا .. نلتـهمهـا لنحـفظهـا عـن ظـهـر قـلب وتـأبـى هى إلا أن تـتبخـر من بـين ثـنايـا عقـولنـا لتـتركهـا فـارغـة ..

والحـمد لله سيطـرنـا عليهـا وربطـنا ضـماداتٍ حـجـرية حـول رأسـنا .. وفى داخـل اللجـان الحـارة وعلى المنضـدة المتـشققـة الخـشبيـة حـررنا رأسـنا وسـكبنـا ما بداخـل عقولنـا فى إنـاء ورقـة الأجـابـة .. داعـين الله أن يطـمس بصـيرة الـمُصحـح فـيـرى الخـطأ صـوابا

وبعـد الخـروج من اللجـان نحـتاج لمـلئ العقـول فقـد نسـيت أسمـى بعـدما رأيـت مـن إغـماءات وصرخـات وأُفٌ من هنـا وأُفٌ من هنـاك … وقابلـت زملائى … الوجـوه متـعبـة منـهكـة .. وتحـت العيـون سـواد منـتفـخ .. ممسـكيـن بالكـتب بكل كلـل .. تتـقـدم الخـطوات بملـل … حـتى اكتملت دائـرة أصدقائي …

كلنـا مجـتمعـين علـى رأى واحـد دون حـتى أن نـتشـاور .. لا كـلام عن الإمتـحـان .. موافـقـون دون تحـاور .. اليـوم أخـر يـوم فى الإمتحـانات وقد أخـذ كل منـا الموافقـة من الأهـل علـى الإنطـلاق والـتنـزه من قبـل أن نخـرج من بـيوتنـا صباحـاً … وهنـا يمكـن أن نـتشـاور ونـتحـاور.. ونـقرر أى مكـان سيكـون وجـهتنـا .. لنغـتسل فيـه من عنـاء دراستنـا وهكـذا الواقـع … خـرجـنا صحـبة بعـدما قـررنا ومن أسـوار الجـامعـة تحـررنا وخـطونـا نحـو الوجـهـة المرجـوة .. لا مكـان افضـل من نهـر النيـل لكـى يغسـلنا من همومـنا ويحـمل عنـا أحـمالـنا .. ووعـلى الشـط وصلنـا ولكنـنا لا نـراه .. “أيـن النيـل .. أريـد أن أنظـر إليـه ” سـؤال صاحـت به سميـرة

فردت عليـه رحـاب :” بالطـبع لن نـراه فهنـا تمتـد الملكـيات الخـاصة من مشـاتـل ومـراسـى للمـراكـب ومطـاعـم .. لكـل منهـم أسـوار حـديديـة لا تـفتـح إلا من خـلال بـوابـة .. وهـكـذا تحـول شـاطـئ النيـل إلى بوابـات “فأضـاف حـازم ساخـراً :” ومـن يعـد البوابـات بشـكل صحـيح له جـائزة قيمـة” فقـاطـعهمـا أحـمد :” لمـاذا لا ندخـل أحـد المطـاعم وأمـرنا لله .. حـتى نستـطـيع أن نـرى النيـل وربمـا يعجـبنـا الطـعام ونـتـناول الغـداء معـاً “فأيّـدتـه أنـا ومـى وتقـدم حـاتم نحـو المطـعم يسـتشـف ماهـيتـه هـل هـو من النـوع العـائلى أم من النـوع التـرفيـهى أم من النـوع الذى يفضـل عدم الدخـول إليـه ومعـه فـتيـات زمـيـلات عـزيـزات مـحترمـات ؟!!!!!!!!!!!وعـاد إلينـا واضعـاً يـده فى جـيبـه يتـبخـتر .. فى خـطوات تحـمل مفاجـأةً .. وتبـدو أنهـا لا تسـر ..

ووسـط نظـراتنـا المسـتفسـرة أجـابنـا بإبتسـامة ساخـرة :” إن كنـتم تستـطـيعون أن تدفـعوا مبـلغ مـائة جـنيه عن الفـرد دون حـتى أن تأكلـوا أو تشـربوا فهـيا البـوابـة مفتـوحـة على مصراعيها ومُـرحبّـة”فهمـسـت سمـيرة :” لم أتـوقع أن رؤيـة نهـر النيـل أصبحـت بـاهظـة هـكذا “فأكمـلت مـى بنـفس النبـرة الهـامسـة :” لمـاذا يا جـدى لم تـنجـبنى أنـا بـدلاً من أبـى حـتى أسـتطيـع أن أتـشبـع من النيـل مثـلمـا فعـل هـو وأمـى ” وإلتفتـت إلينـا مسـتطـردة وقـد تحـولت لهجـتهـا إلى لهجـةٍ حـاقـدة :” كم رووا لى عن قـصصِ رحـلاتهـم النيـليـة والتى لم يـدفعـوا فيهـا مليمـاً أحـمر” وهنـا نطـق أحـمد بعـد تفكيـر :” مـاذا عن رحلـة نيليـة على تلـك المراكـب .. هنـا.. خـلـف الأسـلاك الشـائكـة” وصاحـت رحـاب خـائفـة :” إنهـا متهـالكـة”

فأجـبتهـا بلهجـة الواقـعيـة المـُرة :” وهـل لـدينـا بديـل ؟ “وهنـا قـال حـاتم متحـركاً :” حـسنـاً هـيا بنـا ” وتـقدمـنا وتـبعنـاه نرجـو الله أن تتـم هـذه الرحـلـة عـلى خـير .. فالحـماس والطـمع فى نـزهـة نـاجحـة بـدأ يفـتر ويقـل .. إصطـدم سـهم أحـلامنـا فى حـائط الواقـع الصـلب .. وهكـذا الواقـع .. مفجع جـدب وأخـيراً أرتـسمـت الأبتـسامـة على وجـوهنـا .. رغـم رعـب قلـوبنـا .. فكـأنـنـا بهـذه الرحـلة نعـلن إنـتحـارنـا … إلا أننـا الآن فقـط ونحـن علـى هـذا المركـب المتـهالـك إسـتطـعنـا أن نـرى نهـر النيـل وصـفحـته الشـقيـة تـداعبهـا أمـواج صـنعتهـا المـركب صغـيرة ومـتداخـلة … ترتجـل أشـعـار الخـلود … وتنـسـج قصـائـد محـتويـة أسـرار تـاريخ الوجـود ….

وعـاش كل منـا مشـاعر تبجـيل للخـالق على هبـتـه لنـا ومـاذا كنـا سـنفعـل لـو لم يـهـبنا الله هـذا النهـر الخـالد .. وتـخيلنـا على ضـفافـه الحـضارات السـابقـة وعظـمتهـا وإمتـلئـت نفـوسـنا بمشـاعر من الزهـو والفخـر .. إزدادت برحـيل الغيمـة التى كانـت تـوارى عنـا الشـمـس الصـافيـة وكأنهـا أزاحـتها بنفسـها لتعلـن لنـا عن وجـودهـا وتشـاركنـا زهـونـا بحـضاراتنـا وتـذكرنـا أنهـا شـاهـد رئيـسى على تـلك الحـضارات … فأخـذتنـى جـلالة الموقـف وتمـايلـت فى دلال لأصـافح النيـل بيـدى وأداعـب مياهـه بأنامـلى فصـاح بى حـازم :” إحـذرى أن تعضـك البلهـاريسـيـا” فتعجـبت من قـوله وزاد تعجـبى أكثـر عندمـا أيـدتـه سميـرة قائلة :” أمسـكى هـذا المنـديل وجـففـى يـديـك جـيداً حـتى لا تـعلق بكـى ديـدان البلهـاريسيـا”

وتسـألت وأنـا أجـفف يـدى :” عن أى بلهـاريسيـا تتـكلمـون نحـن فى القـاهـرة لسـنا فى الريـف .. كمـا ان هـذا نهـر النيـل وليـس ترعـة “فأجـابنى أحمـد :” ليـس فى الأمـر إخـتلاف فنحـن أقـرب للتلـوث من الأريـاف “فـردت مى :” أحـب أن أصحـح معـلوماتـك فالبلهـاريسيـا لا تـأتى إلا من إلقـاء مخـلفـات عضـويـة فى الميـاه “وشـارك حـاتم فى الحـوار :” ما يُلقـى فى نهـر النيـل عضـوى وغـير عضـوى كفيـلٌ أن يخـتـلـق أمـراض أكثـر تطـورا من البلهـاريسيـا وديـدان أشـرس من ديـدان البلهـاريسيـا .. ليـت الأمـر يتـوقـف عنـد البلهـاريسيـا “وأعطـانـى منـديـلاً أخـر مبـللاً بمطـهر وقـال لـى :” طـهّرى يديـك بهـذا المنـديـل “

وأنـتـهـت رحـلتـنـا النيـليـة برسـو المركـب على مرسـاه …. وصـوت المـغـنى الجـهـورى لا يمـكـن أن نـنسـاه …فقـد ثقـب آذانـنـا بلحـن اقـتبسـه من حـديقـة الحـيوانـات .. ولـوّث خـيالنـا بـكلمـات مسـتوحـاة من عيـادة طـبيـب بيطـرى وأخـذ حـازم يـصيـح ومعـه مـى :” نحـن عطـشى ألا يـوجـد أى بـائـع معـه مـاء”وأكمـلت رحـاب وحـاتم :” ومـاذا عن الغـذاء ؟ .. ألسـتم جـائعـون ؟”فنظـرت سميـرة إلى سـاعة يـدها قـائلـة :” سـيتحـول إلى عشـاء لو ألقـينـا أنفـسـنا بـين أمـواج المـرور الهـائجـة فى هـذا الوقـت “وأيـدتهـا أنـا وأحمـد :” الوقـت المتـبقـى والزحـام يسـمحـان لنـا بشـئ واحـد فقـط … وهـو العـودة إلى البـيـت “

ولن أتحـدث عـن معـانـاة الرجـوعولن أتحـدث عـن العطـش والجــوعولن أتحـدث عـن تعثـرى وأنـا أسـير .. بسـبب بضـاعـة صاحـب السـوبر ماركـت الـذى تـتزيـن بـه واجـهـة شـارعنـا ولن أتحـدث عـن عـراك أمـام عمـارة أقطـن فيهـا يكـون فى إسـتقبـالى كلمـا ألاقـيهـا .. بـين أثـنيـن من جـيرانـى .. كل منـهم يصـيح فى الآخـر :” لمـاذا تضـع سـيارتـك فى مـكانـى .. وكـأنهـم للحـى مالكـين !!!!”ولن أتحـدث عن بـواب العمـارة .. الـذى دومـاً يبـدو وكأنـه شـيخ حـارة .. يضـع قـدم فـوق الأخـرى وشـئون عملـه ضـائعـة يا خـسارة ..

وكفـانى تحـدث عن الواقـع .. والذى بـحـق جـدبٌ مفجع ..

 

بواسطة belaad بتاريخ 21 يوليو, 2013 في 06:04 مساءً | مصنفة في ثقافة و أدب | لا تعليقات

اترك تعليقا