ثروت الخرباوى يكتب : الشرطة في حضن الشعب

ثروت الخرباوى

كثيراً ما أعتزل الدنيا وما فيها فأغلق هاتفى وأفرغ لنفسى ومصحفى وكتبى، لا شأن لى بما يحدث فى هذه الدنيا، ولا علاقة لى بصخبها وضجيجها ومعاركها و«سُخامها»؛ فأنت حين تكون فى دنيا القلوب تنعزل عن تقلّب دنيا الناس، وأنت حين تكون فى معية «كتاب الله» فأنت فى ملكوت نورانى، وأنت حين تكون مع الأفكار فأنت تسبح فى الكون كله ولو كنت حبيساً فى حجرتك!

وحين اعتزلت الدنيا مؤخراً لا أكلم أحداً ولا أستقبل مكالمات أحد، ولا أفعل إلا كتابة بضع كلمات كخواطر لى عن آيات القرآن الكريم، أو مقالى الدائم لأرسله للجريدة فى موعده، كنت قد علمت بتكرار الحوادث الإرهابية، ساعتئذ كنت أقرأ كتاباً شهيراً فى علم الاجتماع اسمه «قواعد المنهج فى علم الاجتماع» للفيلسوف الفرنسى «إيمل دور كايم» وفى إحدى صفحات الكتاب قفزت لعينى سطور قرأتها كعادتى سريعاً، ثم توقفت وعدت إلى هذه السطور أقرأها على مهل فإذا بالفيلسوف دور كايم يقول «لا يمكن أن تبحث ظاهرة اجتماعية دون أن تربطها بباقى الظواهر فى المجتمع»، وضعت تحت هذا السطر خطاً بالقلم الأحمر، ثم كتبت على جانب الصفحة «ظاهرة التطرف»، ثم أضفت «ظاهرة الإرهاب»، وفى أسفل الصفحة كتبت: هل الإرهاب مرتبط بظاهرة الجهل والفقر؟

تركت الكتاب وعدت بذاكرتى لأفراد جماعة الإخوان الذين عشت معهم لسنوات، معظمهم ينتمى للطبقة الوسطى فى المجتمع، وبعضهم من كبار الأثرياء، وكلهم جامعيون، أطباء، مهندسون، محامون، أساتذة جامعات، أصحاب شركات.

استكملت قراءة الكتاب فإذا بسطر آخر يقتحمنى قال فيه الفيلسوف «ليس بالاستطاعة تغيير طبيعة هذه الظواهر إلا بمعرفة القوانين التى تخضع لها».

إذن للإرهاب قانون، ومعرفة هذا القانون هى التى ستيسر لنا كيفية المواجهة، ولا يمكن للفقر أن يكون هو قانون الإرهاب، لأن أثرياء كباراً هم رموز للإرهاب، ولا أظنكم تنسون أسامة بن لادن وخيرت الشاطر وغيرهما، وكذلك الجهل فليس هو القانون، ولا أظنه يغيب عنكم أن كثيراً من علماء الأزهر ينتمون لمدارس الإرهاب والتطرف، فضلاً عن أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات، الفقر والجهل قد يكونان أدوات لاكتساب أنصار للإرهاب، ولكن القانون غير الأداة، القانون فى حالتنا هذه هو «المنتج الفكرى» الذى يتم تمريره للجميع فقيرهم وثريهم، عالمهم وجاهلهم على أنه هو الدين، القانون هو «العقيدة المشوهة» التى ينعق بها غربان المنابر منذ سنوات بعيدة، فيتلقاها الكل على أنها صحيح الدين، وما هى كذلك، ولأن العقيدة المشوهة سادت وتسيدت أصبح العارف يخاف أن يواجهها حتى لا يدوسه المجتمع الذى آمن بهذا الفكر المريض.

ولكن كيف نواجه هذا القانون؟ لا شك أننا ألقينا على عاتق الأمن المصرى الكثير، بل فوق ما يحتمل، وفى زمن مبارك كان الكل يعلم المرض ويحفظ قانون الإرهاب، ولكن لعبة السياسة كانت تقتضى من حاكم هذا الزمن أن يحتفظ بحياة هذا التطرف ليكون «تحت الطلب» فكان أن أصبح الحاكم بعد الثورة هو الذى يعيش فى سيارة «تحت الطلب» ورغم أن الثورة شىء رائع فإنه كان من مساوئ الثورة أن تلاعب الإخوان بمؤسسات الدولة، فقام للأسف الشديد الوزير منصور العيسوى بتسليم وزارة الداخلية بالكامل لجماعة الإخوان يفعلون بها ما يشاءون، وقام أحد الوزراء من بعده بتحطيم ما تبقى من جهاز «أمن الدولة» وأصبح محمد البلتاجى عند الإخوان هو المشرف الحقيقى على وزارة الداخلية وهو المنوط به القضاء على جهاز أمن الدولة بتسميته الجديدة «الأمن الوطنى» وقام خيرت الشاطر بتعيين عدد من الضباط التابعين له كمشرفين على أقسام مهمة فى الأمن الوطنى، ثم قاموا بإلغاء قسم «التطرف الدينى» فى الأمن الوطنى وتسريح ضباطه وتعيينهم فى جهاز المطافئ، فترتب على ذلك أن استقال عدد من الضباط المتخصصين فى هذا المجال وترك بعضهم البلاد.

كان المقصود لمن لا يعلم هو القضاء على وزارة الداخلية بكاملها، للثأر من ناحية وللعقيدة من ناحية أخرى، فبين الإخوان ووزارة الداخلية ثأر قديم، وجماعة الإخوان لا تنسى ثأرها أبداً ولو بعد قرون، أما العقيدة فجماعة الإخوان ترى أن عقيدة الشرطة هى عقيدة كافرة، وأصل ذلك أنهم يعتقدون أن الشرطة يجب أن تحقق بالترتيب مقاصد الشريعة، وأول مقصد هو حفظ الدين ثم حفظ النفس ثم حفظ العقل ثم حفظ النسل ثم حفظ المال، وبالتالى يجب أن يكون مقصد الشرطة الأول هو «حفظ الدين» فى المجتمع بالقيام بدور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتتبع الناس فى الصلاة والصيام وغير ذلك من الفرائض، ثم يأتى بعد ذلك حفظ النفس وهو الأمن الجنائى، ويدخل حفظ العقل فى أمن المخدرات والمسكرات، والنسل يدخل فى تتبع الزناة وإقامة الحد عليهم، ووفقاً لما عشته فى الإخوان كان هدفهم الأكبر حين السيطرة على الحكم هو القضاء على جهاز الشرطة بأكمله لأنه فى تقديرهم غير مهيأ لتحقيق مقاصدهم فى المجتمع فجهاز الشرطة يضع اهتمامه الأول فى جرائم النفس والمال دون الدين.

وللأسف أقول بكل ألم إن جماعة الإخوان استطاعت التلاعب بالقوى السياسية قبل الثورة، فنقلت لها كراهيتها للأمن مستغلة فى ذلك بعض انفلاتات أمنية كانت تحدث بسبب سوء الإدارة أو غياب الرقابة، وكان معظمها يقع على جماعات الإرهاب، وفى تقديرى أن ما أطلقتُ عليه الآن «انفلاتات الأمن السياسى قبل الثورة» كان فى الواقع سلوكاً مستحقاً على معظم من وقع عليهم.. نعم، فهؤلاء الإرهابيون نبت خبيث وما كان من الممكن أن يتم السيطرة عليهم إلا بإجراءات استثنائية، وإحالتهم للمحاكم العسكرية.. كان مستحقاً أيضاً، بل هو ما يطالب به المجتمع حالياً لاستئصال شأفتهم.

جهاز الأمن هذا الذى أعمل الإخوان معاولهم فى هدمه قام بدور وطنى مجيد لا يمكن أن ينساه إلا الجاحد، ووزير الداخلية الحالى كان من الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم، اختلفتُ معه كثيراً، ونقمت من سلبيات وقعت وما زالت تقع من جهاز الشرطة فى الأقسام وبعض مديريات الأمن، ولكن الحق أحق، فنقد منظومة الشرطة التى يقودها الوزير محمد إبراهيم لا ينبغى أن يكون بمعزل عن ذلك الذى حدث من قبل للشرطة، وأظن الرجل فعل المستحيل حين تم اختياره فى زمن الإخوان، فقد كان يراد منه أن يستكمل خطتهم فى هدم وزارة الداخلية ولكنه رمى بتعليماتهم عرض الحائط وبدأ فى إعادة بناء جهاز الشرطة مرة أخرى، وبعد الثورة قاد عودة الشرطة للشارع المصرى بشكل حقيقى مشرف، كل هذا حدث والإرهاب ينهش فى أحشاء البلد، ثم رأينا فى عهده الأمن وهو يتعافى كثيراً ويحبط العشرات من مخططات الإرهاب، ولكن كل هذا لا يدعنا نصفق له أو نضع له المشانق، بل يجعلنا نسعى لدعمه وتقديم النصيحة له، ودعوته لإعادة هيكلة جهاز الشرطة من جديد، ووجوب أن يعيد كل ضباط الأمن الوطنى المبعدين، نعلم أنه أعاد بعضهم ولكن الكثيرين من أصحاب الخبرات لا يزالون خارج الجهاز، ندعوه للقيام بدور رقابى على أعلى مستوى لمواجهة الأخطاء التى تقع من بعض رجال الشرطة وتسىء للعلاقة بينهم وبين الشعب، ثم ندعوه لتنشيط الأمن الجنائى ليكون المواطن آمناً على نفسه، ولتعلم الشرطة فى كل حين أنها فى «حضن الشعب».

بواسطة belaad بتاريخ 23 نوفمبر, 2014 في 07:08 مساءً | مصنفة في مقالات | لا تعليقات

اترك تعليقا